امتدت الاحتجاجات التي بدأت في تونس في 17 كانون الأول 2010 إلى أجزاء كثيرة من الشرق الأوسط مثل الجزائر ولبنان والأردن والسودان واليمن ومصر وسوريا خلال فترة زمنية قصيرة وأُطلق عليها اسم ”الربيع العربي“، كما اندلعت هذه الانتفاضات الشعبية في مدينة درعا السورية في 15 آذار 2011، وسرعان ما تحولت الاحتجاجات التي انتشرت في جميع أنحاء سوريا، ولا سيما في حمص ودمشق، إلى اشتباكات مسلحة، ولم يقف الكرد الذين يعيشون في سوريا إلى جانب نظام الأسد ولا إلى جانب الجماعات شبه العسكرية الأخرى المدعومة من القوى الدولية، واختار الجانب الكردي، بقيادة حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، الطريق الثالث، واتخذ إجراءات لتحويل هذه المرحلة إلى ”ربيع الشعوب“، وأسست شعوب روج آفا إداراتها الذاتية تحت قيادة الكرد وبدأت في تنظيم نفسها في شكل مقاطعات ومجالس، وأصبحت روج آفا، التي كانت منظمة بهياكل صغيرة، اليوم نموذجاً للإدارة الديمقراطية في الشرق الأوسط والعالم بأسره من خلال التطورات التي شهدتها يوماً بعد يوم في كل المجالات، وإحدى المدن التي تشكل جزءاً من هذا النموذج هي مدينة سري كانيه التي احتلتها الدولة التركية ومرتزقتها في 9 تشرين الأول 2019، وبعد هذا الاحتلال، أُجبر حوالي 150 ألف شخص إلى التهجير قسراً من سري كانيه، وقمنا بدورنا، بالتحدث مع رجاء عبدو مصطفى (47 عاماً) وابنتها خانم حسين (17 عاماً)، اللتين أُجبرتا على التهجير قسراً من سري كانيه، عن حياتهما في سري كانيه ومرحلة تهجيرهما منها.
رجاء عبدو مصطفى من أهالي سري كانيه وهي أم لثمانية أطفال، وُلد جميع أطفالها وترعرعوا في سري كانيه، تصف حياتها قبل احتلال سري كانيه على النحو التالي:
”كان لدينا منزل وقطعة أرض في سري كانيه، بنينا المنزل بأيدينا، وكانت حياتنا جميلة وهادئة وسعيدة، وكانت سري كانيه مدينتنا، لا شيء يضاهي أرض الإنسان ومدينته ومنزله، ولقد وُلد أطفالي في سري كانيه وكانوا يذهبون إلى المدرسة، لم يكن من السهل تربية وتعليم ثمانية أطفال، لكنهم كانوا طلاباً ناجحين، كانوا يحبون سري كانيه، وكان من المستحيل ألا يحبوا المدينة التي وُلدوا وترعرعوا فيها، كان جميع أصدقائهم هناك، ولكن، عندما اضطررنا للهجرة بسبب الاحتلال، كانوا هم الأكثر تأثراً بذلك، حيث أنه في بداية التهجير، لم يكن لدينا بالفعل مكان نقيم فيه، ولقد تمكنا نحن البالغين من التحمل بطريقة ما، لكن أطفالي مروا بوقت عصيب للغاية، فقد تغيرت منازلهم والشوارع التي كانوا يلعبون فيها وكذلك أصدقائهم، لذلك، واجهوا صعوبة في التأقلم مع الحياة الجديدة، حتى أنهم لم يتمكنوا من إكمال دراستهم؛ فلم يرغبوا في إكمال الدراسة بعد تهجيرهم“.
"دافعنا فقط عن أرضنا وشعبنا"
ولفتت رجاء عبدو مصطفى الانتباه إلى اليوم الذي أقدمت فيه الدولة التركية ومرتزقتها على شن الهجوم، وأضافت قائلةً: "كنا بتاريخ 9 تشرين الأول، في حوالي الساعة 16:00 في المنزل، وقد أعددنا المائدة ونستعد لتناول الطعام، وفجأة بدأت الطائرات في شن الهجمات، وتفاجئنا جميعاً، وقبل شن الهجوم، كان هناك حديث عن احتمال نشوب حرب، وكان يجري إطلاع الشعب بذلك وتنظيمه، لكنني لم أكن أعتقد أن حرباً بهذا المستوى ستحدث، واستمرت الحياة، فمن ناحية، كان يتم شق الطرقات وإصلاح محطات الكهرباء المعطلة ومصادر المياه، ومن ناحية أخرى، كنا نعيش أجواء الحرب، ومع ذلك، لم يتبادر إلى ذهني أبداً أن سري كانيه ستُحتل يوماً ما، لأننا لم نؤذِ أحداً قط، كنا فقط ندافع عن أرضنا وشعبنا".
"كنا سبع عائلات تقيم معاً في منزل واحد"
عندما بدأ القصف، لم نتمكن من تناول الطعام، فقد تُركت مائدتنا على الأرض واضطررنا إلى مغادرة منزلنا، وذهبنا إلى قرية تل ناصر في تل تمر، وبقينا في اليوم الأول في الشارع، ثم استقر بنا المقام في منزل فارغ بلا أبواب ونوافذ، وبدأنا بتنظيف المنزل، لكنه كان مهجوراً وغير صالح للسكن، وأقمنا في هذا المنزل مع 7 عائلات، وعلى مدار 7 أيام و7 ليالٍ لم يكن لدينا بطانية نغطي بها أنفسنا، ولا إسفنجة نستلقي أو نجلس عليها، ولا وسادة نضع عليها رؤوسنا، بعد سبعة أيام، لبى الرفاق احتياجاتنا الأساسية مثل الإسفنج والبطانيات والوسائد، وبعد ذلك، أقمنا في ناحية الهول في الحسكة لمدة 10 أشهر، ولاحقاً استقر بنا المقام في مخيم نوروز".
وتحدثت رجاء عبدو مصطفى عن حياتها في مخيم نوروز قائلةً: إن "الحياة في المخيم صعبة جداً، فنحن نقيم في خيمتين لأن عددنا كبير، ولكن هناك فرق شاسع ما بين الحياة في الخيام والحياة في المنزل، حيث نعاني من صعوبات مختلفة في الصيف والشتاء، ومن الصعب توفير المياه في الصيف والحماية من الماء والمطر في الشتاء، فلا شيء يمكن أن يحل محل منزل الإنسان وحديقته وأرضه".
"لقد عانينا من آلام تفوق سنوات عمرنا"
شهدت خانم حسين وحشية الدولة التركية وهي لم تكن قد بلغت من العمر 12 عاماً فقط، وتتحدث خانم، التي كانت طالبة في الصف الأول الإعدادي في ذلك الوقت، عن الأحداث التي حدثت لها، قائلةً: "كان منزلنا في سري كانيه جميلاً جداً، وقد وُلدت في ذلك المنزل وترعرعت فيه، وأحببت سيري كانية ومنزلي كثيراً، فكيف لا أحب المكان الذي وُلدت وترعرعت فيه؟ لقد كنت على علاقة طيبة للغاية مع صديقات في الحي الذي وُلدت فيه وصديقات في المدرسة، وكان من الصعب جداً أن أبتعد عنهم، وقد كنتُ في الثانية عشرة من عمري عندما بدأت هجمات الاحتلال، أي أنني كنتُ مجرد طفلة، ولم أكن مدركة ما الذي كان قد جرى، كان يوماً عادياً كالمعتاد، لكن ما حدث كان قد حدث في الساعة الرابعة بعد الظهر، فجأة سمعنا أصوات انفجارات وخرجنا من منزلنا، وعشنا آلاماً تفوق سنوات عمرنا، وشهدنا المجازر، وتعرضنا للتهجير القسري، وتشتتنا من مكان إلى آخر، ولم نتمكن من العودة إلى منزلنا منذ ذلك اليوم".
وتتحدث خانم التي كانت متفوقة في المدرسة وقررت ترك المدرسة بعد احتلال سري كانيه، عن تلك المرحلة: "عندما كنتُ في سري كانيه، كنتُ أحب الدراسة، وكنتُ أحصل على درجات جيدة في دروسي، ولكن، بعد الاحتلال، لم أستطع مواصلة دراستي، حيث لم يعد هناك سري كانيه، ولم يكن لدي منزل ولا أصدقاء، وحاولت التأقلم مع الحياة الجديدة، لكن مع تغير أصدقائي أبعدتُ عن المدرسة، وبدلاً من ذلك، ولكي أصبح امرأة شابة مناضلة، وأعرف حقيقة العدو عن كثب، وأنظم شعبي وأحذره، انضممت إلى أنشطة لجنة التدريب في مخيم نوروز، وآمنتُ أنه يمكنني التغلب على هذه المراحل الصعبة بالمعرفة الأيديولوجية، وهذا ما حصل، وأدركتُ أنه كلما قمتُ بتدريب نفسي وشعبي، كلما أصبحتُ أكثر سعادة واستقراراً".
"بالطبع، سنعود يوماً ما"
لم تفقد خانم حسين أملها في العودة إلى سري كانيه أبداً، واختتمت حديثها بالقول: "سنكون أقوى مع مجتمع منظم، وكلما كنا أكثر تنظيماً، فسوف يُهزم العدو، بالطبع، سنعود إلى سري كانيه يوماً ما وما زلنا متفائلين كما في اليوم الأول".